فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي: {أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دياركم} بضم النون في أن وضم واو أو والسبب فيه نقل ضمة {اقتلوا} وضمة {أَخْرِجُواْ} إليهما، وقرأ عاصم وحمزة بالكسر فيهما لالتقاء الساكنين، وقرأ أبو عمرو بكسر النون وضم الواو، وقال الزجاج: ولست أعرف لفصل أبي عمرو بين هذين الحرفين خاصية إلا أن يكون رواية.
وقال غيره: أما كسر النون فلأن الكسر هو الأصل لالتقاء الساكنين، وأما ضم الواو فلأن الضمة في الواو أحسن لأنها تشبه واو الضمير.
واتفق الجمهور على الضم في واو الضمير نحو {اشتروا الضلالة} [البقرة: 16] {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل} [البقرة: 237]. اهـ.
قال الفخر:
الضمير في قوله: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} فيه قولان:
الأول: وهو قول ابن عباس ومجاهد أنه عائد إلى المنافقين، وذلك لأنه تعالى كتب على بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، وكتب على المهاجرين أن يخرجوا من ديارهم، فقال تعالى: ولو أنا كتبنا القتل والخروج عن الوطن على هؤلاء المنافقين ما فعله الا قليل رياء وسمعة، وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم، فإذا لم نفعل ذلك بل كلفناهم بالأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليقبلوا الإيمان على سبيل الإخلاص، وهذا القول اختيار أبي بكر الأصم وأبي بكر القفال.
الثاني: أن المراد لو كتب الله على الناس ما ذكر لم يفعله إلا قليل منهم، وعلى هذا التقدير دخل تحت هذا الكلام المؤمن والمنافق، وأما الضمير في قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ} فهو مختص بالمنافقين، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاما وآخرها خاصا، وعلى هذا التقدير يجب أن يكون المراد بالقليل المؤمنين، روي أن ثابت بن قيس بن شماس ناظر يهوديا، فقال اليهودي: إن موسى أمرنا بقتل أنفسنا فقبلنا ذلك، وإن محمدا يأمركم بالقتال فتكرهونه، فقال: يا أنت لو أن محمدا أمرني بقتل نفسي لفعلت ذلك، فنزلت هذه الآية.
وروي أن ابن مسعود قال مثل ذلك، فنزلت هذه الآية.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي» وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: والله لو أمرنا ربنا بقتل أنفسنا لفعلنا والحمد لله الذي لم يأمرنا بذلك. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} أي فرضنا وأوجبنا {أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ} أي كما أمرنا بني إسرائيل وتفسير ذلك بالتعرض له بالجهاد بعيد {أَوِ اخرجوا مِن دياركم} كما أمرنا بني إسرائيل أيضًا بالخروج من مصر.
والمراد إنما كتبنا عليهم إطاعة الرسول والانقياد لحكمه والرضا به ولو كتبنا عليهم القتل والخروج من الديار كما كتبنا ذلك على غيرهم {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ} وهم المخلصون من المؤمنين كأبي بكر رضي الله تعالى عنه.
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: «لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر يا رسول الله لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت فقال: صدقت يا أبا بكر» وكعبد الله بن رواحة، فقد أخرج عن شريح بن عبيد أنها لما نزلت أشار صلى الله عليه وسلم إليه بيده فقال: «لو أن الله تعالى كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل»، وكابن أم عبد، فقد أخرج عن سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: «لو نزلت كان منهم»، وأخرج عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية قال أناس من الصحابة: لو فعل ربنا لفعلنا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «للإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي» وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: والله لو أمرنا لفعلنا فالحمد لله الذي عافانا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي».
وفي بعض الآثار أن الزبير وصاحبه لما خرجا بعد الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مرا على المقداد فقال: لمن القضاء؟ فقال الأنصاري: لابن عمته ولوى شدقه ففطن يهودي كان مع المقداد فقال: قاتل الله تعالى هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ويتهمونه في قضاء يقضى بينهم وأيم الله تعالى لقد أذنبنا ذنبًا مرة في حياة موسى عليه السلام فدعانا إلى التوبة منه، وقال: اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفًا في طاعة ربنا حتى رضي عنا؛ فقال ثابت بن قيس: أما والله إن الله تعالى ليعلم مني الصدق لو أمرني محمد صلى الله عليه وسلم أن أقتل نفسي لقتلتها، وروي أن قائل ذلك هو وابن مسعود وعمار بن ياسر، وأنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فقال: «والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالًا الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي وإن الآية نزلت فيهم»، وفي رواية البغوي الاقتصار على ثابت بن قيس، وعلى هذا الأثر وجه مناسبة ذكر هذه الآية مما لا يخفى، وكأنه لذلك قال صاحب الكشاف في معناها: «لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم، أو خروجهم من ديارهم حين استتيبوا من عبادة العجل ما فعلوه إلا قليل»، وقال بعضهم: إن المراد أننا قد حففنا عليهم حيث اكتفينا منهم في توبتهم بتحكيمك والتسليم له ولو جعلنا توبتهم كتوبة بني إسرائيل لم يتوبوا، والذي يفهم من فحوى الأخبار المعول عليها أن هذه الكتابة لا تعلق لها بالاستتابة، ولعل المراد من ذكر ذلك مجرد التنبيه على قصور كثير من الناس ووهن إسلامهم إثر بيان أنه لا يتم إيمانهم إلا بأن يسلموا حق التسليم، وظاهر ما ذكره الزمخشري من أن بني إسرائيل أمروا بالخروج حين استتيبوا مما لا يكاد يصح إذا أريد بالديار الديار المصرية لأن الاستتابة من عبادة العجل إنما كانت بعد الخروج منها وبعد انفلاق البحر وهذا مما لا امتراء فيه على أنا لا نسلم أنهم أمروا بالخروج استتابة في وقت من الأوقات، وحمل الذلة على الخروج من الديار لأن ذل الغربة مثل مضروب في قوله تعالى: {إِنَّ الذين اتخذوا العجل سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ وَذِلَّةٌ} [الأعراف: 152] لا يفيد إذ الآية لا تدل على الأمر به والنزاع فيه على أن في كون هذه الآية في التائبين من عبادة العجل نزاعًا، وقد حقق بعض المحققين أنها في المصرين المستمرين على عبادته كما ستعلمه إن شاء الله تعالى؛ والعجب من صاحب [الكشف] كيف لم يتعقب كلام صاحب الكشاف بأكثر من أنه ليس منصوصًا في القرآن، ثم نقل كلامه في الآية.
هذا والكلام في {لَوْ} هنا أشهر من نار على علم، وحقها كما قالوا: أن يليها فعل، ومن هنا قال الطبرسي: التقدير لو وقع كتبنا عليهم، وقال الزجاج: إنها وإن كان حقها ذلك إلا أن إن الشديدة تقع بعدها لأنها تنوب عن الاسم والخبر فنقول ظننت أنك عالم كما تقول: ظننتك عالمًا أي ظننت علمك ثابتًا فهي هنا نائبة عن الفعل والاسم كما أنها هناك نائبة عن الاسم والخبر، وضمير الجمع في {عَلَيْهِمْ} وما بعده قيل: للمنافقين ونسب إلى ابن عباس ومجاهد، واعترض بأن فعل القليل منهم غير متصور إذ هم المنافقون الذين لا تطيب أنفسهم بما دون القتل بمراتب، وكل شيء دون المنية سهل، فكيف تطيب بالقتل ويمتثلون الأمر به؟ وأجيب بأن المراد لو كتبنا على المنافقين ذلك ما فعله إلا قليل منهم رياءًا وسمعة وحينئذٍ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم، فإذ لم نفعل بهم ذلك بل كلفناهم الأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليلزموا الإخلاص، ونسب ذلك للبلخي.
ولا يخفى أن قوله صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن رواحة: «لو أن الله تعالى كتب ذلك لكان منهم» وكذا غيره من الأخبار السالفة تأبى هذا التوجيه غاية الإباء لأنها مسوقة للمدح، ولا مدح في كون أولئك المذكورين من القليل الذين يمتثلون الأمر رياءًا وسمعة بل ذلك غاية في الذم لهم وحاشاهم، وقيل: للناس مطلقًا، والقلة إضافية لأن المراد بالقليل المؤمنون وهم وإن كثروا قليلون بالنسبة إلى من عداهم من المنافقين، والكفرة المتمردين {وَمَا أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] وحينئذٍ لا يرد أنه يلزم من الآية كون بني إسرائيل أقوى إيمانًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث امتثلوا أمر الله تعالى لهم بقتل أنفسهم حتى بلغ قتلاهم سبعين ألفًا، ولا يمتثله لو كان من الصدر الأول إلا قليل ومن الناس من جعل الآية بيانًا لكمال اللطف بهذه الأمة حيث إنه لا يقبل القتل منهم إلا القليل لأن الله تعالى يعفو عنهم بقتل قليل ولا يدعهم أن يقتل الكثير كبني إسرائيل إلا أنهم لا يفعلون كما فعل بنو إسرائيل لقلة المخلصين فيهم وكثرة المخلصين في بني إسرائيل ليلزم التفضيل.
وقيل: يحتمل أن يكون قتل كثير من بني إسرائيل لأنهم لو لم ينقادوا لأهلكهم عذاب الله تعالى، وهذه الأمة مأمونون إلى يوم القيامة فلا يقدمون كما أقدموا لعدم خوف الاستئصال لا لأنهم دون، وأن بني إسرائيل أقوى منهم إيمانًا، وأنت تعلم أن الآية بمراحل عن إفادتها كمال اللطف، والسباق والسياق لا يشعران به أصلًا، وأن خوف الاستئصال وعدمه مما لا يكاد يخطر ببال كما لا يخفى على من عرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال، والضمير المنصوب في {فَعَلُوهُ} للمكتوب الشامل للقتل والخروج لدلالة الفعل عليه، أو هو عائد على القتل والخروج وللعطف بأو لزم توحيد الضمير لأنه عائد لأحد الأمرين، وقول الإمام الرازي: إن الضمير عائد إليهما معًا بالتأويل تنبو عنه الصناعة، و{قَلِيلٌ} لكون الكلام غير موجب بدل من الضمير المرفوع في {فَعَلُوهُ}، وقرأ ابن عامر {إِلاَّ قَلِيلًا} بالنصب وجعله غير واحد على أنه صفة لمصدر محذوف، والاستثناء مفرغ أي ما فعلوه إلا فعلًا قليلًا، ومن في {مِنْهُمْ} حينئذٍ للابتداء على نحو ما ضربته إلا ضربًا منك مبرحًا، وقال الطيبي: إنها بيان للضمير في فعلوا كقوله تعالى: {لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ} [المائدة: 73] على التجريد وليس بشيء، وكأن الذي دعاهم إلى هذا والعدول عن القول بنصبه على الاستثناء أن النصب عليه في غير الموجب غير مختار، فلا يحمل القرآن عليه كما يشير إليه كلام الزجاج حيث قال: النصب جائز في غير القرآن لكن قال ابن الحاجب: لا بعد في أن يكون أقل القراء على الوجه الأقوى، وأكثرهم على الوجه الذي هو دونه بل التزم بعض الناس أنه يجوز أن يجمع القراء غير الأقوى وحققه الحمصي، وقيل: بل يكون إجماعهم دليلًا على أن ذلك هو القوي لأنهم هم المتفننون الآخذون عن مشكاة النبوة، وأن تعليل النحاة غير ملتفت إليه.
ورجح بعضهم أيضًا النصب على الاستثناء هنا بأن فيه توافق القراءتين معنى وهو مما يهتم به، وبأن توجيه الكلام على غيره لا يخلو عن تكلف ودغدغة، وقرأ أبو عمرو ويعقوب أن اقتلوا بكسر النون على الأصل في التخلص من الساكنين، و{أَوِ اخرجوا} بضم الواو للاتباع، والتشبيه بواو الجمع في نحو {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، وقرأ حمزة وعاصم بكسرهما على الأصل، والباقون بضمهما وهو ظاهر، و{إن} كيفما كانت نونها إما مفسرة لأنا كتبنا في معنى أمرنا ولا يضر تعديه بعلى لأنه لم يخرج عن معناه، ولو خرج فتعديه باعتبار معناه الأصلي جائز كما في نطقت الحال بكذا حيث تعدى الفعل بالباء مع أنهم قدير يدون به دل وهو يتعدى بعلى.
وإن أبيت هذا ولا أظن قلنا: إنه بمعنى أو حينًا وإما مصدرية وهو الظاهر ولا يضر زوال الأمر بالسبك لأنه أمر تقديري. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والمراد بالخروج من الديار الهجرة، أي كتبنا عليهم هجرة من المدينة، وفي هذا تنويه بالمهاجرين والمجاهدين. اهـ.

.قال الفخر:

قال أبو علي الجبائي: لما دلت هذه الآية على أنه تعالى لم يكلفهم ما يغلظ ويثقل عليهم، فبأن لا يكلفهم ما لا يطيقون كان أولى، فيقال له: هذا لازم عليك لأن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما لم يكلفهم بهذه الأشياء الشاقة، لأنه لو كلفهم بها لما فعلوها، ولو لم يفعلوها لوقعوا في العذاب، ثم أنه تعالى علم من أبي جهل وأبي لهب أنهم لا يؤمنون، وأنهم لا يستفيدون من التكليف إلا العقاب الدائم، ومع ذلك فإنه تعالى كلفهم، فكل ما تجعله جوابا عن هذا فهو جوابنا عما ذكرت. اهـ.